بقلم: د. راغب السرجاني
لم يكن قرار اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير مُفاجِئًا لأكثرنا؛
لأننا صرنا نعيش في زمن وضوح الرؤية حيث يلعب الجميع على المكشوف، فلا
مواربة ولا مداهنة، إنما العداء الصارخ، والتبجُّح الصريح
انهم يريدون أن يقنعوا العالم أن قلوب أعضاء المحكمة الجنائية ومجلس الأمن،
وكذلك قلوب الساسة الأمريكان والأوربيين تتفطّر من أجل المدنيين في إقليم
دارفور! ويريدون أن يقنعوا العالم أيضًا أن عمر البشير أكثر عدوانيةً وأشد
شراسةً من ليفني وأولمرت وباراك وشيمون بيريز. كما يريدون أن يقنعوا
العالم أنه من أجل العدالة والحق سيجمعون جيوش الأرض في السودان؛ لمنع
ظلمٍ يقع - حسب ما يقولون - على بعض القرى الإفريقية!!
يحسبون أن العالم لا يُطالِع أخبار فلسطين، ويحسبونه لا يطالع أخبار
العراق وأفغانستان، ويحسبون أننا لا نعلم تاريخهم المقيت القريب في
إفريقيا ذاتها، وكيف قسَّموها على أنفسهم، وقطَّعوها إربًا، واستعبدوا
أهلها، واستنزفوا ثرواتهم، وأهانوا كرامتهم، ثم الآن يعلنون أن نخوتهم
تتحرك لإنقاذ الأفارقة من عمر البشير!!
إن الأوراق صارت حقًّا كلها مكشوفة!
إنها خطوات حثيثة لفعل الجريمة الكبرى بتقسيم البلد الإسلامي الكبير
السودان، ولتكن إحدى الخطوات هي قرار اعتقال عمر البشير بتهمة جرائم حرب
ضد بعض أفراد شعبه في دارفور..
ولقد بدأت هذه الخطوات منذ زمن كما يعلم الجميع، والغرب الآن يمارس سياسة
النَّفَس الطويل في حربه مع العالم الإسلامي؛ فهم يؤهِّلون أنفسهم
وشعوبهم، وكذلك الشعوب الإسلامية لخبر اجتياح السودان أو على الأقل تهديده
بالاجتياح، ولا مانع أن يأخذوا في ذلك عِدَّة سنوات، فالمطلوب أمر كبير
يحتاج إلى طول إعداد..
لقد قرأنا في الصحف الغربية لعدة سنوات أخبار السودان، وأن الغرب مهتم
جدًّا بما يحدث في جنوب السودان، وفي دارفور، وأن هذه أزمة تؤرِّق نوم
الطيبين في أوربا وأمريكا!
وشاهدنا رام إيمانويل، وهو يهودي بل إسرائيلي الجنسية، ويعمل كمدير
موظفي البيت الأبيض، وهو يتعاون مع اللوبي الصهيوني الأمريكي في حملة هجوم
على عمر البشير تحت دعوى إنقاذ أهل دارفور! بل رأيناه يقود حملة لجمع
التبرعات من الشعب الأمريكي ومن أطفال المدارس لأطفال دارفور؛ وذلك حتى
يكسب الرأي العام الأمريكي للضغط على الساسة من أجل الاهتمام بقضية
السودان!! ويريد رام إيمانويل الصهيوني أن يُقنِعَنا أن أطفال السودان في
حكم البشير يعانون أكثر من أطفال غزة تحت قصف باراك وليفني!
وما الهدف من وراء كل هذا الاهتمام، وكل هذا الإعداد؟!
إن الهدف واضح، ومعلن صراحةً في وسائل إعلامهم وعلى ألسنتهم.. ولقد
تكفّل وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر بإعلان هذا الهدف في الصحف
الصهيونية يوم 10 من أكتوبر 2008 في مقال تحت عنوان "الهدف هو تفتيت
السودان وشغله بالحروب الأهلية"، وقال في هذا الموضوع بالحرف الواحد:
"السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولةً إقليمية
قوية، وقوةً مضافة إلى العالم العربي".
هذا هو الهدف بوضوح: تفتيت السودان..
لقد تنامى خطر السودان في عيون الغرب والصهاينة في السنوات الأخيرة، وخاصةً
أنه بلد كبير جدًّا تزيد مساحة على 2.5 مليون كم2، ويبلغ عدد سكانه 40.2
مليون نسمة (عام 2008)، وهو يتحكم في منابع النيل التي تمثِّل شريان
الحياة لمصر ومن بعدها - كما يريدون - إسرائيل. غير أن الذي دفع الغرب إلى
تسريع عملية الضغط على السودان في السنوات الأخيرة هو اكتشاف البترول
بغزارة، وخاصةً في جنوب السودان وجنوب دارفور، وكذلك اكتشاف اليورانيوم في
شمال دارفور، وفوق ذلك وأعظم ظهورُ الاتجاه الإسلامي بقوة في الحكومة
والشعب؛ مما يمثل خطرًا استراتيجيًّا كبيرًا على مصالح الصهاينة
والغربيين، فهم لا يتصورون أن يتحوَّل هذا البلد الضخم إلى قوة كبيرة
تمتلك البترول واليورانيوم وملايين الأفدنة الصالحة للزراعة إلى دولة
إسلامية تسخِّر كل هذه الإمكانيات لمصلحة الإسلام والمسلمين، وخاصةً أن
السودان هو بوابة الإسلام إلى إفريقيا بكل ثرواتها البشرية والاقتصادية
والاستراتيجية.
إن مسألة قيام دولة إسلامية في السودان أمرٌ في غاية الخطورة في
الحسابات الغربية والصهيونية، ومِن ثَمَّ كرَّس الغرب كل جهوده من أجل
تفتيت هذا البلد، وسحقه قبل أن يقوم على أقدامه، ولقد اكتشفت أمريكا أن
الأسلوب العسكري مكلف للغاية، سواءٌ كان بشريًّا أو ماديًّا، وأن حادث ضرب
مصنع الشفاء في السودان سنة 1998 لا يمكن أن يكون وسيلة فعّالة لتحقيق
المراد، وخاصةً أن السودان بلد ضخم جدًّا له حدود مع تسع دول مما يجعل
مسألة حصاره صعبة للغاية، وخاصةً أيضًا أن السودان يُنَمِّي عَلاقته مع
الصين وروسيا بشكل مطَّرد.. لذا آثرت أمريكا والغرب أن يقطِّعوا السودان
إربًا بأيدي أبنائه، وأن يتناوب الساسة الأوربيون والأمريكان الحديث عن
أزمة السودان حتى يصبح الأمر عالميًّا وليس أمريكيًّا، وأن يستخدموا
الأساليب القانونية والدبلوماسية والاقتصادية، بل والإغاثية الإنسانية
لتحقيق الهدف المنشود، وهو تفتيت السودان إلى عِدَّة ولايات صغيرة يدين
معظمها بالولاء للصهاينة وللغرب! خاصةً وأن العالم العربي والإسلامي
يَغُطُّ في سباتٍ عميق، ويرى كل هذه الأحداث دون أن يفهمها، أو لعلَّه
يفهم ولا يريد أن يتحرك!
كانت البداية أن وقف الصهاينة والغرب بقوَّة مع جنوب السودان يؤيِّدون انفصاله
من السودان الأم، وتعاونوا بشكل صريح مع جون جارانج زعيم ما يسمَّى بجبهة
تحرير السودان الذي خاض حروبًا أهلية دامية مع الحكومة السودانية، وكان
الغرب مؤيِّدًا له بقوة، خاصةً أن جنوب السودان به أكثر من 80% من بترول
السودان، وانتهى الأمر - للأسف الشديد - في سنة 2005 بما سُمِّي باتفاق
السلام الشامل (اتفاق ماشاكوس)، والذي يعطي السكان في جنوب السودان الحق
في التصويت لتقرير المصير سنة 2011، ومِن ثَمَّ فستُعرض مسألة فصل جنوب
السودان عن دولة السودان لرأي سكان المنطقة، والذين سيصوِّتون بلا جدال
إلى قرار الفصل، خاصةً أن الأغلبية في مناطق الجنوب للوثنيين والنصارى،
وخاصةً أيضًا أن الغرب واليهود يؤيدون ويباركون، وليس مستغربًا أن يتحوَّل
جنوب السودان إلى دولة قوية جدًّا في المنطقة.. بها بترول، وتتحكم في
منابع النيل، وتحظى بتأييد أمريكا والغرب واليهود، ومِن ثَم تُصبِح دولة
في منتهى الخطورة على الإسلام تحاصره من الجنوب، وتمنع انتشاره في القارة
السمراء، وتمثِّل حارسًا أمينًا للمطامع الصهيونية والغربية والأمريكية.
حدث كل هذا في ظل صمت عربي وإسلامي مُخْزٍ، وتخلَّى العرب والمسلمون عن
السودان في هذه الاتفاقات والمفاوضات؛ فجلس وحيدًا أمام وحوش العالم حتى
وصلوا إلى هذه النتيجة التي تمثِّل تهديدًا صارخًا لا للسودان وحده، ولكن
للعالم الإسلامي بكامله، وفي مقدمته مصر التي سيتم تركيعها تمامًا بعد
الإمساك بشريان النيل!
ثم فتح الغرب ملفًا جديدًا خطيرًا، وهو ملف دارفور في غرب السودان، فما
المانع في فصله هو الآخر، خاصةً وأنه يمتلك مخزونًا كبيرًا من البترول
واليورانيوم، فوصل الغرب - للأسف الشديد - إلى بعض المسلمين الذين يرغبون
في زعامة ومنصب في دارفور، وتَمَّ التعاون معهم للقيام بحركات تمرد في
دارفور مدعومين بالأمريكان والصهاينة، وهؤلاء يُنادون بفصل دارفور عن
السودان ليصبح دولة علمانية - كما ينادي المتمردون - تفصل الدين تمامًا عن
الدولة..
ودخل الغرب بثقله مع هذا المشروع الانفصالي، وقادوا حملات إعلامية
واسعة النطاق للترويج لهذا الفصل، وأرسلوا عددًا كبيرًا من الهيئات
الإغاثية بهدف توجيه شعب دارفور إلى الولاء للغرب، وهذا في ظل غياب إسلامي
كبير عن الساحة السودانية..
ونادى الغرب في حملات متكررة بعزل الرئيس عمر البشير صاحب التوجُّه
الإسلامي وحافظ القرآن الكريم، والمتمتع بتأييد قطاع كبير من الشعب
السوداني، والمقبول بقوَّة عند كثيرٍ من علماء الأمة في السودان وخارجها،
طالبوا بعزله عن قيادة السودان، وإنشاء سودان جديد علماني.. وأثاروا
بالتالي قضايا جرائم الحرب - كما يقولون - وأن هناك تطهيرًا عرقيًّا في
دارفور..
ونواصل ....